فصل: فَصْلٌ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ مَا عَدَا الْحَرَمِ وَالْحِجَازِ مِنْ الْبِلَادِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الأحكام السلطانية والسياسة الدينية والولايات الشرعية



.فَصْلٌ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ مَا عَدَا الْحَرَمِ وَالْحِجَازِ مِنْ الْبِلَادِ:

وَأَمَّا مَا عَدَا الْحَرَمَ وَالْحِجَازَ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا انْقِسَامَهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ أَسْلَمَ عَلَيْهِ أَهْلُهُ فَيَكُونُ أَرْضَ عُشْرٍ.
وَقِسْمٌ أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ فَيَكُونُ بِمَا أَحْيَوْهُ مَعْشُورًا.
وَقِسْمٌ أَحْرَزَهُ الْغَانِمُونَ عَنْوَةً فَيَكُونُ مُعَشَّرًا.
وَقِسْمٌ صُولِحَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ فَيْئًا يُوضَعُ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ.
وَهَذَا الْقِسْمُ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا صُولِحُوا عَلَى زَوَالِ مُلْكِهِمْ عَنْهُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَيَكُونُ الْخَرَاجُ أُجْرَةً لَا تَسْقُطُ بِإِسْلَامِ أَهْلِهِ فَتُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ.
وَالثَّانِي: مَا صُولِحُوا عَلَى بَقَاءِ مُلْكِهِمْ عَلَيْهِ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَيَكُونُ الْخَرَاجُ جِزْيَةً تَسْقُطُ بِإِسْلَامِهِمْ وَيُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِذْ قَدْ انْقَسَمَتْ الْبِلَادُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ فَسَنَشْرَحُ حُكْمَ أَرْضِ السَّوَادِ فَإِنَّهَا أَصْلُ حُكْمِ الْفُقَهَاءِ فِيهَا بِمَا يُعْتَبَرُ بِهِ نَظَائِرُهَا، وَهَذَا السَّوَادُ يُشَار بِهِ إلَى سَوَادِ كِسْرَى الَّذِي فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ سُمِّيَ سَوَادًا لِسَوَادِهِ بِالزَّرْعِ وَالْأَشْجَارِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ تَاخَمَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ الَّتِي لَا زَرْعَ فِيهَا وَلَا شَجَرَ كَانُوا إذَا خَرَجُوا مِنْ أَرْضِهِمْ إلَيْهِ ظَهَرَتْ خُضْرَةُ الزَّرْعِ وَالْأَشْجَارِ وَهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْخُضْرَةِ وَالسَّوَادِ فِي الْأَسَامِي كَمَا قَالَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ وَكَانَ أَسْوَدَ اللَّوْنِ (مِنْ الرَّمْلِ):
وَأَنَا الْأَخْضَرُ مَنْ يَعْرِفُنِي ** أَخْضَرُ الْجِلْدَةِ مِنْ نَسْلِ الْعَرَبِ

فَسَمُّوا خُضْرَةَ الْعِرَاقِ سَوَادًا، وَسُمِّيَ عِرَاقًا لِاسْتِوَاءِ أَرْضِهِ حِينَ خَلَتْ مِنْ جِبَالٍ تَعْلُو وَأَوْدِيَةٍ تَنْخَفِضُ وَالْعِرَاقُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الِاسْتِوَاءُ قَالَ الشَّاعِرُ (مِنْ السَّرِيعِ):
سُقْتُمْ إلَى الْحَقِّ لَهُمْ وَسَاقُوا

سِيَاقَ مَنْ لَيْسَ لَهُ عِرَاقُ

أَيْ لَيْسَ لَهُ اسْتِوَاءٌ؛ وَحَدُّ السَّوَادِ طُولًا مِنْ حَدِيثَةِ الْمَوْصِلِ إلَى عَبَّادَانِ، وَعَرْضُهُ مِنْ عُذَيْب الْقَادِسِيَّةِ إلَى حُلْوَانَ يَكُونُ طُولُهُ مِائَةً وَسِتِّينَ فَرْسَخًا وَعَرْضُهُ ثَمَانِينَ فَرْسَخًا.
فَأَمَّا الْعِرَاقُ فَهُوَ فِي الْعَرْضِ مُسْتَوْعِبٌ لِأَرْضِ السَّوَادِ عُرْفًا وَيَقْصُرُ عَنْ طُولِهِ فِي الْعُرْفِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَهُ مِنْ شَرْقِيِّ دِجْلَةَ الْعَلْثُ وَفِي غَرْبَيْهَا حَرْبِيٌّ ثُمَّ يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ أَعْمَالِ الْبَصْرَةِ مِنْ جَزِيرَةِ عَبَّادَانِ فَيَكُونُ طُولُهُ مِائَةً وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ فَرْسَخًا يَقْصُرُ عَنْ السَّوَادِ بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ فَرْسَخًا، وَعَرْضُهُ مَعَ تَبَعِهِ فِي الْعُرْفِ ثَمَانُونَ فَرْسَخًا كَالسَّوَادِ قَالَ قُدَامَةُ بْنُ جَعْفَرٍ يَكُونُ ذَاكَ مُكَسَّرًا عَشَرَةَ آلَافِ فَرْسَخٍ، وَطُولُ الْفَرْسَخِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفِ ذِرَاعٍ بِالذِّرَاعِ الْمُرْسَلَةِ وَيَكُونُ بِذِرَاعِ الْمِسَاحَةِ، وَهِيَ الذِّرَاعُ الْهَاشِمِيَّةُ تِسْعَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إذَا ضُرِبَ فِي مِثْلِهِ هُوَ تَكْسِيرُ فَرْسَخٍ فِي فَرْسَخِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ أَلْفَ جَرِيبٍ وَخَمْسِمِائَةِ جَرِيبٍ، فَإِذَا ضُرِبَ ذَلِكَ فِي عَدَدِ الْفَرَاسِخِ، وَهِيَ عَشَرَةُ آلَافِ فَرْسَخٍ بَلَغَ مِائَتَيْ أَلْفِ أَلْفٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ، يَسْقُطُ مِنْهَا بِالتَّخْمِينِ مَوَاضِعُ التِّلَالِ وَالْآكَامِ وَالسِّبَاخِ وَالْآجَامِ وَمَدَاسٌ كَالطُّرُقِ وَالْمَحَاجِّ وَمَجَارِي الْأَنْهَارِ وَعِرَاضِ الْمُدُنِ وَالْقُرَى وَمَوَاضِعِ الْأَرْجَاءِ وَالْبَرِيدَاتِ، وَالْقَنَاطِرِ والشاذروانات وَالْبَنَادِرِ وَمَطَارِحِ الْقَصَبِ وَأَتَاتِينِ الْآجُرِّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ الثُّلُثُ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ، يَصِيرُ الْبَاقِي مِنْ مِسَاحَةِ الْعِرَاقِ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ يُرَاحُ مِنْهَا النِّصْفُ وَيَكُونُ النِّصْفُ مَزْرُوعًا مَعَ مَا فِي الْجَمِيعِ مِنْ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ وَالْأَشْجَارِ، فَإِذَا أُضِيفَ إلَى مَا ذَكَرَهُ قُدَامَةُ فِي مِسَاحَةِ الْعِرَاقِ مَا زَادَ عَلَيْهَا بَقِيَّةَ السَّوَادِ، وَهُوَ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ فَرْسَخًا كَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى تِلْكَ الْمِسَاحَةِ قَدْرَ رُبْعِهَا فَيَصِيرُ ذَلِكَ مِسَاحَةَ جَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لِلزَّرْعِ وَالْغَرْسِ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ، وَفِي الْمُتَعَذَّرِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ زَرْعَ جَمِيعِهِ وَقَدْ يَتَعَطَّلُ مِنْهُ بِالْعَوَارِضِ وَالْحَوَادِثِ مَا لَا يَنْحَصِرُ.
وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ بَلَغَتْ مِسَاحَةُ السَّوَادِ فِي أَيَّامِ كَسْرَى قَبَاءَ مِائَةِ أَلْفِ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ فَكَانَ مَبْلَغُ ارْتِفَاعِهِ مِائَتَيْ أَلْفِ أَلْفٍ وَسَبْعَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ بِوَزْنِ الْمِثْقَالِ، وَأَنَّ مِسَاحَةَ مَا كَانَ يُزْرَعُ مِنْهُ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ إلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ.
وَإِذْ قَدْ اسْتَقَرَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حُدُودِ السَّوَادِ وَمِسَاحَةِ مَزَارِعِهِ، فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فَتْحِهِ وَفِي حُكْمِهِ.
فَذَهَبَ أَهْلُ الْعِرَاقِ إلَى أَنَّهُ فُتِحَ عَنْوَةً، لَكِنْ لَمْ يُقَسِّمْهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَأَقَرَّهُ عَلَى سُكَّانِهِ، وَضَرَبَ الْخَرَاجَ عَلَى أَرْضِهِ.
وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي السَّوَادِ أَنَّهُ فُتِحَ عَنْوَةً وَاقْتَسَمَهُ الْغَانِمُونَ مِلْكًا ثُمَّ اسْتَنْزَلَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَنَزَلُوا إلَّا طَائِفَةً اسْتَطَابَ نُفُوسَهُمْ بِمَالٍ عَاوَضَهُمْ بِهِ عَنْ حُقُوقِهِمْ مِنْهُ، فَلَمَّا خَلَصَ لِلْمُسْلِمِينَ ضَرَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهِ خَرَاجًا.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي حُكْمِهِ؛ فَذَهَبَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ إلَى أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَفَهُ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَقَرَّهُ فِي أَيْدِي أَرْبَابِهِ بِخَرَاجٍ ضَرَبَهُ عَلَى رِقَابِ الْأَرْضَيْنِ يَكُونُ أُجْرَةً لَهَا تُؤَدَّى فِي كُلِّ عَامٍ.
وَإِنْ لَمْ تَتَقَدَّرْ مُدَّتُهَا لِعُمُومِ الْمَصْلَحَةِ فِيهَا، وَصَارَتْ بِوَقْفِهِ لَهَا فِي حُكْمِ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ خَيْبَرَ وَالْعَوَالِي وَأَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ، وَيَكُونُ الْمَأْخُوذُ مِنْ خَرَاجِهَا مَصْرُوفًا فِي الْمَصَالِحِ وَلَا يَكُونُ فَيْئًا مَخْمُوسًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ خُمِّسَ وَلَا يَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى الْجَيْشِ؛ لِأَنَّهُ وَقْفٌ عَلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَصَارَ مَصْرِفُهُ فِي عُمُومِ مَصَالِحِهِمْ الَّتِي مِنْهَا أَرْزَاقُ الْجَيْشِ وَتَحْصِينُ الثُّغُورِ وَبِنَاءُ الْجَوَامِعِ وَالْقَنَاطِرِ وَكِرَاءُ الْأَنْهَارِ وَأَرْزَاقُ مَنْ تَعُمُّ بِهِمْ الْمَصْلَحَةُ مِنْ الْقُضَاةِ وَالشُّهُودِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَالْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ، فَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِ رِقَابِهَا وَتَكُونُ الْمُعَارَضَةُ عَلَيْهَا بِالِانْتِفَاعِ وَالِانْتِقَالِ لِأَيْدٍ وَجَوَازُ التَّصَرُّفِ لَا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ إلَّا عَلَى مَا أُحْدِثَ فِيهَا مِنْ غَرْسٍ وَبِنَاءٍ، وَقِيلَ إنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَفَ السَّوَادَ بِرَأْيِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ اسْتَنْزَلَ الْغَانِمِينَ عَنْ السَّوَادِ بَاعَهُ عَلَى الْأَكَرَةِ وَالدَّهَاقِينَ بِالْمَالِ الَّذِي وَضَعَهُ عَلَيْهَا خَرَاجًا يُؤَدُّونَهُ فِي كُلِّ عَامٍ فَكَانَ الْخَرَاجُ ثَمَنًا، وَجَازَ مِثْلُهُ فِي عُمُومِ الْمَصَالِحِ كَمَا قُبِلَ بِجَوَازِ مِثْلِهِ فِي الْإِجَازَةِ وَأَنَّ بَيْعَ أَرْضِ السَّوَادِ يَجُوزُ وَيَكُونُ الْبَيْعُ مُوجِبًا لِلتَّمْلِيكِ.
وَأَمَّا قَدْرُ الْخَرَاجِ الْمَضْرُوبِ عَلَيْهَا، فَقَدْ حَكَى عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ اسْتَخْلَصَ السَّوَادَ بَعَثَ حُذَيْفَةَ عَلَى مَا وَرَاءِ دِجْلَةَ وَبَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ عَلَى مَا دُونَ دِجْلَةَ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ فَمَسَحَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ السَّوَادَ فَوَجَدَهُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا، قَالَ الْقَاسِمُ: بَلَغَنِي أَنَّ الْقَفِيزَ مِكْيَالٌ لَهُمْ يُدْعَى الشَّابِرْقَانَ، قَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ هُوَ الْمَحْتُومُ الْحَجَّاجِيُّ.
وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَبِي مُخْلِدٍ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ جَعَلَ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنْ الْكَرْمِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنْ النَّخْلِ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنْ قَصَبِ السُّكَّرِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنْ الرَّطْبَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنْ الْبُرِّ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنْ الشَّعِيرِ دِرْهَمَيْنِ فَكَانَ خَرَاجُ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مُخَالِفًا لِخَرَاجِهِمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَهَذَا لِاخْتِلَافِ النَّوَاحِي بِحَسَبِ مَا تَحْتَمِلُ، وَكَانَتْ ذِرَاعُ حُذَيْفَةَ وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ ذِرَاعَ الْيَدِ وَقَبْضَةً وَإِبْهَامًا مَمْدُودًا، وَكَانَ السَّوَادُ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ الْفُرْسِ جَارِيًا عَلَى الْمُقَاسَمَةِ إلَى أَنْ مَسَحَهُ وَوَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَيْهِ قَبَاءُ بْنُ فَيْرُوزَ فَارْتَفَعَ لَهُ بِالْمِسَاحَةِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ بِوَزْنِ الْمِثْقَالِ.
وَكَانَ السَّبَبُ فِي مِسَاحَتِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَبْلُ جَارِيًا عَلَى الْمُقَاسَمَةِ مَا حُكِيَ أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا يَتَصَيَّدُ فَأَفْضَى إلَى شَجَرٍ مُلْتَفٍّ فَدَخَلَ فِيهِ الصَّيْدُ فَصَعِدَ إلَى رَابِيَةٍ يُشْرِفُ مِنْهَا عَلَى الشَّجَرِ لِيَرَى مَا فِيهِ مِنْ الصَّيْدِ، فَرَأَى امْرَأَةً تَحْفِرُ فِي بُسْتَانٍ فِيهِ نَخْلٌ وَرُمَّانٌ مُثْمِرٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ يُرِيدُ أَنْ يَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ الرُّمَّانِ، وَهِيَ تَمْنَعُهُ، فَعَجِبَ مِنْهَا، وَأَنْفَذَ إلَيْهَا رَسُولًا يَسْأَلُهَا عَنْ سَبَبِ مَنْعِ وَلَدِهَا مِنْ الرُّمَّانِ؟ فَقَالَتْ: إنَّ لِلْمِلْكِ حَقًّا لَمْ يَأْتِ الْقَاسِمُ لِقَبْضِهِ وَنَخَافُ أَنْ يَنَالَ مِنْهُ شَيْئًا إلَّا بَعْدَ أَخْذِ حَقِّهِ، فَرَقَّ الْمَلِكُ لِقَوْلِهَا وَأَدْرَكَتْهُ رَأْفَةٌ بِرَعِيَّتِهِ فَتَقَدَّمَ إلَى وُزَرَائِهِ بِالْمِسَاحَةِ الَّتِي يُقَارِبُ قِسْطُهَا مَا يَحْصُلُ بِالْمُقَاسَمَةِ لِتَمْتَدَّ يَدُ كُلِّ إنْسَانٍ إلَى مَا يَمْلِكُهُ فِي وَقْتِ حَاجَتِهِ إلَيْهِ فَكَانَ الْفُرْسُ عَلَى هَذَا فِي بَقِيَّةِ أَيَّامِهِمْ وَجَاءَ الْإِسْلَامُ فَأَقَرَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِسَاحَةِ وَالْخَرَاجِ فَبَلَغَ ارْتِفَاعُهُ فِي أَيَّامِهِ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَجَبَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ وَخَمْسَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ بِغَشْمِهِ وَظُلْمِهِ، وَجَبَاهُ الْحَجَّاجُ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفٍ بِغَشْمِهِ وَخَرَابِهِ، وَجَبَاهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفٍ بِعَدْلِهِ وَعِمَارَتِهِ، وَكَانَ ابْنُ هُبَيْرَةَ يَجْبِيهِ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ سِوَى طَعَامِ الْجُنْدِ وَأَرْزَاقِ الْمُقَاتِلَةِ، وَكَانَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ يُحَصِّلُ مِنْهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ سِتِّينَ أَلْفَ أَلْفٍ إلَى سَبْعِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَيَحْتَسِبُ بِعَطَاءِ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَفِي نَفَقَةِ الْبَرِيدِ أَرْبَعَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَفِي الطَّوَارِقِ أَلْفَ أَلْفٍ، وَيَبْقَى فِي بُيُوتِ الْأَحْدَاثِ وَالْعَوَاتِقِ عَشَرَةُ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ: ارْتِفَاعُ هَذَا الْإِقْلِيمِ فِي الْحَقَّيْنِ أَلْفَ أَلْفِ أَلْفٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَمَا نَقَصَ مِنْ مَالِ الرَّعِيَّةِ زَادَ فِي مَالِ السُّلْطَانِ؛ وَمَا نَقَصَ مِنْ مَالِ السُّلْطَانِ زَادَ فِي مَالِ الرَّعِيَّةِ، وَلَمْ يَزَلْ السَّوَادُ عَلَى الْمِسَاحَةِ وَالْخَرَاجِ إلَى أَنْ عَدَلَ بِهِمْ الْمَنْصُورُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ عَنْ الْخَرَاجِ إلَى الْمُقَاسَمَةِ؛ لِأَنَّ السِّعْرَ نَقَصَ فَلَمْ تَفِ الْغَلَّاتُ بِخَرَاجِهَا وَخَرِبَ السَّوَادُ فَجَعَلَهُ مُقَاسَمَةً، وَأَشَارَ أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ عَلِيُّ الْمَهْدِيِّ أَنْ يَجْعَلَ أَرْضَ الْخَرَاجِ مُقَاسَمَةً بِالنِّصْفِ إنْ سَقَى سَيْحًا وَفِي الدَّوَالِي عَلَى الثُّلُثِ، وَفِي الدَّوَالِيبِ عَلَى الرُّبْعِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ سِوَاهُ، وَأَنْ يَعْمَلَ فِي النَّخْلِ وَالْكَرْمِ وَالشَّجَرِ مِسَاحَةَ خَرَاجٍ تُقَدَّرُ بِحَسَبِ قُرْبِهِ مِنْ الْأَسْوَاقِ وَالْفَرْضِ وَيَكُونُ الْبَيْنُ مِثْلَ الْمُقَاسَمَةِ فَإِذَا بَلَغَ حَاصِلُ الْغَلَّةِ مَا يَفِي بِخَرَاجَيْنِ أَخَذَ عَنْهَا خَرَاجًا كَامِلًا، وَإِذَا نَقَصَ تَرَكَ فَهَذَا مَا جَرَى فِي أَرْضِ السَّوَادِ.
وَاَلَّذِي يُوجِبُهُ الْحُكْمُ أَنَّ خَرَاجَهَا هُوَ الْمَضْرُوبُ عَلَيْهَا أَوَّلًا وَتَغْيِيرُهُ إلَى الْمُقَاسَمَةِ إذَا كَانَ لِسَبَبٍ حَادِثٍ اقْتَضَاهُ اجْتِهَادُ الْأَئِمَّةِ فَيَكُونُ أَمْضَى مَعَ بَقَاءِ سَبَبِهِ، وَإِلَّا أُعِيدَ إلَى حَالِهِ الْأَوَّلِ عِنْدَ زَوَالِ سَبَبِهِ؛ إذْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْقُضَ اجْتِهَادَ مَنْ تَقَدَّمَهُ.
فَأَمَّا تَضْمِينُ الْعُمَّالِ لِأَمْوَالِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ فَبَاطِلٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي الشَّرْعِ حُكْمٌ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ مُؤْتَمَنٌ يَسْتَوْفِي مَا وَجَبَ وَيُؤَدِّي مَا حَصَلَ فَهُوَ كَالْوَكِيلِ الَّذِي إذَا أَدَّى الْأَمَانَةَ لَمْ يَضْمَنْ نُقْصَانًا، وَلَمْ يُكْمِلْ زِيَادَةً، وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ فِي تَمَلُّكِ مَا زَادَ وَغُرْمِ مَا نَقَصَ، وَهَذَا مُنَافٍ لِوَضْعِ الْعِمَالَةِ وَحُكْمِ الْأَمَانَةِ فَبَطَلَ.
وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَتَقَبَّلُ مِنْهُ الْأُبُلَّةَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَضَرَبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ وَصَلَبَهُ حَيًّا تَعْزِيرًا وَأَدَبًا.
وَقَدْ خَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّاسَ فَجَمَعَ فِي خُطْبَتِهِ بَيْنَ صِفَتِهِمْ وَصِفَةِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمْ وَحُكْمِ الْمَالِ الَّذِي يَلِيهِ بِمَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَسْمُوعُ، وَالْحَقُّ الْمَتْبُوعُ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اقْرَءُوا الْقُرْآنَ تَعَرَّفُوا بِهِ، اعْمَلُوا بِمَا فِيهِ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ، وَلَنْ يَبْلُغَ ذُو حَقٍّ حَقَّهُ أَنْ يُطَاعَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، أَلَا وَإِنَّهُ لَنْ يُبْعِدَ مِنْ رِزْقٍ، وَلَنْ يُقَرِّبَ مِنْ أَجَلٍ أَنْ يَقُولَ الْمَرْءُ حَقًّا، أَلَا وَإِنِّي مَا وَجَدْتُ صَلَاحَ مَا وَلَّانِي اللَّهُ إلَّا بِثَلَاثٍ: أَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَالْأَخْذُ بِالْقُوَّةِ، وَالْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، أَلَا وَإِنِّي مَا وَجَدْتُ صَلَاحَ هَذَا الْمَالِ إلَّا بِثَلَاثٍ: أَنْ يُؤْخَذَ بِحَقٍّ، وَأَنْ يُعْطَى فِي حَقٍّ، وَأَنْ يُمْنَعَ مِنْ بَاطِلٍ، أَلَا وَإِنِّي فِي مَالِكُمْ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ إنْ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ، وَإِنْ افْتَقَرْتُ أَكَلْت بِالْمَعْرُوفِ كَتَرَمُّمِ الْبَهِيمَةِ الْأَعْرَابِيَّةِ.